تنظيم المحتوى والرقابة عليه, المراقبة / التصنت, الخصوصية وحماية البيانات والاحتفاظ بها
بافولوتسكي، كلاوديو وآخرون ضد فيشر الأرجنتين ش. م.
الأرجنتين
قضية جارية الحكم يُعزز من حُرية التعبير
حرية التعبير العالمية هي مبادرة أكاديمية، ولذلك، نشجعك على مشاركة وإعادة نشر مقتطفات من محتوانا طالما لا يتم استخدامها لأغراض تجارية وتحترم السياسة التالية:
• يجب عليك الإشارة إلى مبادرة جامعة كولومبيا لحرية التعبير العالمية كمصدر.
• يجب عليك وضع رابط إلى العنوان الأصلي للتحليل القضائي أو المنشور أو التحديث أو المدونة أو الصفحة المرجعية للمحتوى القابل للتنزيل الذي تشير إليه.
معلومات الإسناد وحقوق النشر والترخيص لوسائل الإعلام المستخدمة من قبل مبادرة حرية التعبير العالمية متاحة على صفحة الإسناد الخاصة بنا.
هذه القضية متاحة بلغات إضافية: استعرضها بلغة أخرى: English استعرضها بلغة أخرى: Français
قرّرت المحكمة العليا لشمال خاوتينغ في بريتوريا – جنوب افريقيا أنّ التنصّت على الاتصالات بالجملة يشكّل قيدا غير مبرّر للحقّ في الخصوصيّة وارتأت أنّ العديد من جوانب تشريعات الرّقابة غير دستوريّة.
أثار القضيّة صحفيّ استقصائيّ بعد أن اكتشف أنّه قد خضع للتنصّت عندما أحال أحد المحامين في دعوى قضائيّة منفصلة تماما إلى نسخ مكتوبة من اتّصالاته. شدّدت المحكمة على الشّرط الدّستوري الذي يقتضي أن يكون الحدّ من الحقّ في الخصوصيّة على نحو يتسبّب في أقلّ درجة ممكنة من الاقتحام والتدخّل في الحياة الخاصّة للأفراد كما أكّدت على الحاجة إلى الحفاظ على حقّ الاعلام في حريّة التّعبير من خلال تأمين حماية سريّة مصادر المعلومات. لذلك يجب أن تذكر مطالب الاذن بالتنصّت صفة الطّرف الخاضع للتنصّت إذا كان صحفيّا أو محاميا ويجب أيضا إشعار الطّرف الخاضع للتنصّت في غضون ٩٠ يوما من انتهاء صلاحية الاذن بالتنصّت لفتح المجال للماطالبة بالتعويضات عن أيّ انتهاك مزعوم.
منح نصّ الحكم للبرلمان مهلة سنتين لضبط معايير معالجة البيانات الشخصيّة وتعزيز استقلاليّة القاضي الذي يتولّى إصدار الاذن بالتنصّت واعتماد آليّة لموازنة حقوق الطّرف المعنيّ بالتنصّت. ينتظر هذا الحكم تأكيدا من جانب المحكمة الدّستوريّة.
سنة ٢٠١٥ خلال التّداول في قضيّة تشمل اسقاط تهم بالفساد ضدّ رئيس جنوب افريقيا في تلك الفترة، جاكوب زوما تمّ الكشف عن غير قصد على أنّه قد تمّ التنصّت سنة ٢٠٠٨ على اتّصالات جرت بين الصّحفي الاستقصائي، سام سول والمدّعي العام للدّولة، بيلي داونر. تمّ الكشف عن هذه الأحداث عندما ألحق محامي الرّئيس زوما ضمن الملفّ الذي تقدّم به للمحكمة مقتطفات من المكالمات التي تمّ التنصّت عليها رسميّا بين سام سول وبيلي داونر. كان سام سول يقوم بعمل استقصائيّ بشأن قرار اسقاط التّهم الموجّهة ضدّ زوما الذي أثار جدلا كبيرا في جنوب افريقيا آن ذاك. سام سول هو أحد شركاء مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية الذي يعمل كغرفة أخبار مستقلّة وغير ربحيّة مختصّة في الصّحافة الاستقصائية، مقرّه في جنوب افريقيا ويهدف إلى “تطوير الصّحافة الاستقصائيّة لتعزيز الإعلام الحرّ والقدير والدّيمقراطيّة المنفتحة والمسؤولة والعادلة“.
تمّ التصنّت على الاتّصالات بين يول وداونر بمقتضى قانون ٢٠٠٢ المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها وقد تمّ اعتماد هذا القانون بهدف حماية خصوصيّة الاتّصالات باستثناء الجرائم الخطيرة والتّهديدات المحدّقة بالأمن الوطني. رغم أنّ القانون يفرض حظرا على التنصّت على المكالمات أو تسجيلها اعترافا بالحقّ في الخصوصيّة وما من شأنه أن يقترف من تجاوزات من خلال تلك الممارسات فقد اعترف المشرّع أيضا “بوجود دوافع نبيلة تدعو إلى التصنّت على الاتصالات”. (الفقرة ٢٩). ويقرّ التّشريع بأنّ السّلطة المخوّلة للتنصّت هي سلطة تقتحم حقّ الأفراد في الخصوصيّة لكنّها لا تمنح سوى للمسؤولين عن جهاز الأمن والمكلّفين بإنفاذ القانون وبشرط تقديم طلب في الشأن والحصول على ترخيص للتنصّت على مكالما شخص ما. يطالب القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها بطرح مطلب التنصّت على أنظار “القاضي المعيّن” الذي يجب أن يكون قاضيا متقاعدا وبالتّالي يكون “من ذوي الخبرة” يختاره وزير العدل وفقا لسلطته التقديريّة. (الفقرة ٣٢) يقدّم القاضي تقريرا سنويّا للبرلمان ويتلقّى أجرا مقابل ذلك العمل. ينظّم القسم ١٦ من القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة طبيعة مطلب التنصّت والمعلومات التي يجب إدراجها في المطلب منها معلومات حول المتقدّم بالطلب وضابط إنفاذ القانون الذي سيقوم بالتنصّت وموضوع التنصّت وأسبابه وهل تمّ استنفاذ إجراءات التّحقيق ومدّة التنصّت المطلوبة. كما تشترط أحكام القانون الّا يصدر القاضي المعيّن الإذن بالتنصّت سوى بعد اقتناعه بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأنّ جريمة خطيرة قد ارتكبت أو سوف يتمّ ارتكابها وبأنّ التصنّت ضروريّ وانّ الهدف من طلب الاذن بالتنصّت سيتمّ فعلا تحقيقه من خلال التنصّت.
يسمح نظام المراقبة الوارد في القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها بالمراقبة الآنيّة ويسمح أيضا للموظّفين القائمين بالمراقبة بالحصول على جرد بالاتّصالات الخاصّة بالطّرف المعنيّ ذلك أنّ مزوّدي الاتّصالات في جنوب افريقيا مطالبون قانونا بتخزين محتوى الاتّصالات لفترات تحدّدها وزارة العدل. لا يمكن نقل المعلومات المتحصّل عليها عبر التنصّت إلى أيّ كان باستثناء الجهات المفوّضة كما لا يتمّ أبدا إعلام الشخص الذي خضع إلى التنصّت بذلك ليظلّ التنصّت سرّا محفوظا إلى الأبد. كما نصّ القانون على بعث مكتب لمراكز التنصّت مكلّف بتخزين وإدارة البيانات التي يجمّعها مزوّدو خدمات الاتّصالات.
مثّل اكتشاف التنصّت على مكالمات سام سول فرصة لمركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية ولسام سول للطّعن في دستوريّة قانون ٢٠٠٢ المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها. شرح سول بأنّ دواعي قلقه بشأن القانون مردّها أنّه لم يكن يعلم بأنّه يخضع إلى المراقبة إلى أن كشف محامي زوما عن تلك المقتطفات ولذلك في غياب إشعار يعلمه بأنّه قد خضع إلى التنصّت لم يكن يمكنه أن يطالب بحماية حقّه في الخصوصيّة. إضافة إلى ذلك لم يستطع سول أن يتحقّق من الأسباب التي منح بمقتضاها الاذن بالتصنّت على اتصالاته ولم يكن يعلم أيضا ما آل إليه محتوى المكالمات التي تمّ التصنّت إليها. أعرب سول عن قلقه على وجه التّحديد بشأن سريّة مصادره الصحفيّة خاصّة أنّ معظم عمله الاستقصائيّ يدور حول نزاعات مع الحكومة ومن شأن التنصّت على اتصالاته أن يعرّض سريّة وسلامة مصادره إلى الخطر.
في شهر ابريل ٢٠١٧، تقدّم كلّ من مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية وسام سول بدعوى أمام المحكمة العليا لشمال خاوتينغ في بريتوريا يطالبان فيها بالتّصريح بعدم دستوريّة أحكام مختلفة من القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها. رُفعت الدّعوى ضدّ وزير العدل ووزير أمن الدّولة ووزير الاتّصال ووزير الدّفاع وقدماء المحاربين وضدّ الشّرطة ومصالح الاتّصالات السلكيّة واللاسلكيّة والبريد والمركز الوطني للاتصالات واللجنة المشتركة (البرلمانيّة) القارّة المكلّفة بالاستخبارات ووكالة أمن الدّولة. وتمّ قبول الجمعيّة غير الربحيّة المختصّة في المناصرة (Right2Know Campaign) ومؤسّسة الخصوصيّة الدوليّة (Privacy International) كطرف ثالث تستأنس المحكمة برأيه.
نطق القاضي سوثرلند بالحكم الذي أصدرته المحكمة. تمثّلت المسألة الأساسيّة التي نظرت فيها المحكمة في تحديد ما إذا كانت القيود التي يفرضها الدّستور في القسم ١٤ على الحقّ في الخصوصيّة وفي القسم ١٦ على حريّة التّعبير لدى وسائل الاعلام وفي القسم ٣٤ على الحقّ في التّقاضي والقسم ٣٥ في الحقّ في محاكمة عادلة مبرّرة. وكان على المحكمة أن تقرّر ما إذا كانت أحكام القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها تمثّل السّبيل الأقلّ اقتحاما الذي يتمّ به التعدّي على تلك الحقوق وقد اعتبرت المحكمة أنّ التّجاذب يقع “بين خصوصيّة وأمن الأفراد والمجتمع ككلّ” (الفقرة ٢٧).
تقدّم مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية بعدد من المقترحات لتحسين نظام المراقبة لمزيد احترام الحقوق الدّستوريّة للأفراد ولتعزيز الضّمانات صلب التّشريع. وأفاد المركز بأنّ الحقّ في تلقيّ اشعار بعد انقضاء أجل الإذن بالتنصّت من شأنه على الأقلّ أن يمنح الطّرف المعنيّ الحقّ في الانتصاف والمطالبة بتعويضات للضّرر الحاصل بالتعدّي على خصوصيّته وهو أمر ضروريّ لأنّ طبيعة نظام المراقبة تجعل منه نظاما تعسّفيّا.
ودعا إلى نظام يتمّ فيه تعزيز استقلاليّة القاضي المعيّن من خلال انتقاء القاضي المعنيّ بالخطّة من قبل لجنة الخدمات القضائيّة (كما هو معمول به في جنوب افريقيا لتعيين جميع القضاة) وبتعزيز دور القاضي المعيّن من خلال عمله بالتّعاون مع “نائب الحقّ العام لإدخال عنصر من عناصر التّنازع على عمليّة التّقييم”. (الفقرة ٤٠) كما اقترح المركز الحدّ من مدّة تخزين البينات من الفترة الدّنيا المعمول بها (ثلاث سنوات) إلى مدّة قصوى لا تتجاوز ستّة أشهر و على ضرورة أن ينصّ القانون على كيفيّة إدارة البيانات و التطرّق إلى مراقبة مزوّدي الخدمات الذين يتعاملون مع تلك البيانات حيث بيّن المركز أنّ القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها لا ينصّ على طريقة التصرّف في تخزين المعطيات و من يمكنه النّفاذ لتلك المعطيات و كيف يتمّ تنظيم ذلك و هل يمكن إعداد نسخ منها و هل يجب تسجيل النّسخ إن وجدت و هل يمكن تقاسم النّفاذ لها مع الدّوائر المعنيّة بالأمن و أجهزة المخابرات و هل يتعيّن اتلاف المعطيات و كيف يمكن الفصل بين البيانات الملائمة وغير الملائمة و إتلافها.
إضافة إلى ذلك ذكر مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية أنّ القانون ينبغي ان يسمح بالحفاظ على الحصانة القانونيّة مع التحفّظ بشكل خاصّ على التّرخيص للتصنّت على اتّصالات الصحفيّين والمحامين وإذا ما تبيّن أنّ التنصّت ضروريّ ينبغي أن يطالب القانون المرور بوسيط لفرز الاتّصالات واستثناء ما هو مشمول بالحصانة القانونيّة أو تحديد المصدر السريّ للصحفيّ الاستقصائي.
حدّدت المحكمة أربع اعتراضات على دستوريّة القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها فيما يلي بيانها: عدم تعرّض النصّ لحقّ الأفراد الخاضعين للتصنّت في إشعارهم بذلك؛ وقصور القانون عن خلق ضمانات عند انتقاء القاضي المعيّن وفيما يتعلّق بتنظيم دور القاضي؛ وأوجه قصور القانون فيما يتعلّق بحفظ وإدارة المعطيات المجمّعة؛ وأوجه قصور القانون عن حماية الحصانة القانونيّة والحفاظ على سريّة مصادر الصحفيّين الاستقصائيّين. (الفقرة ٢٦) وتمّ تقديم طعن منفصل يتعلّق بعدم وجود قانون ينظّم جمع بيانات المراقبة بالجملة ممّا يجعل ذلك العمل غير قانونيّ.
بادرت المحكمة باختبار دستوريّة القانون وبيّنت أنّ أوّل مرحلة تتطلّب تحديد “انتهاك الحقّ في حدّ ذاته” أمّا المرحلة الثّانية فتتمثّل في “النّظر في طبيعة الانتهاك ومبرّراته”. (الفقرة ٣٦) في قضيّة الحال تمّ الإقرار بوجود انتهاك للقسم ١٤ وأكّدت المحكمة على أنّ الحقّ في حريّة التّعبير وحريّة الاعلام والحقّ في الحصانة القانونيّة والحقّ في التّقاضي قد تمّ المساس بها إلى جانب الحقّ في الخصوصيّة. يمثّل القسم ٣٦ بندا تقييديّا عامّا في دستور جنوب افريقيا وهو ينصّ على أنّه “لا يجوز تقييد الحقوق الواردة في وثيقة الحقوق إلا بمقتضى قانون يطبق على الناس كافة بقدر ما يكون التقييد معقولاً وله ما يبرره في مجتمع مفتوح وديمقراطي يقوم على الكرامة الإنسانية والمساواة والحرية، مع مراعاة كل العوامل ذات الصلة”. (الفقرة ٣٧) تتمثّل إحدى الجوانب الأساسيّة للتّحقيق في إطار هذه القضيّة في تحديد ما إذا كان التّقييد من الحقّ يدخل تحت عنوان “الحدّ الأدنى من التدخّل المتوافق مع متطلّبات الاستثناء” وأشارت المحكمة إلى الحكم الصّادر في قضيّة المؤسّسة الصحفيّة Independent Newspapers (Pty) Ltd ضدّ الوزير المكلّف بالاستخبارات في القضيّة 2008 (5) SA 31 (CC) التي تقدّم بها Masetla ضدّ رئيس جمهوريّة جنوب افريقيا أمام المحكمة الدّستوريّة حيث تمّ اعتبار المتطلّبات الدّنيا على أنّها ” ملائمة و تتناسب مع الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه”. (الفقرة ٣٧)
شرحت المحكمة بأنّ النّموذج المعتمد من خلال القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها يستند إلى مبدأ المساءلة عبر سلطة مستقلّة تتمثّل في قاض معيّن لإصدار الاذن بالتنصّت وعبر “صرح البيروقراطيّة” الذي يتطلّب من الموظّفين تسجيل أنشطتهم ورفع تقارير حولها. (الفقرة ٢٧) وقد أقرّت المحكمة من خلال قيامها بتقييم كيفيّة القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها بأنّ “الخصوصيّة تشكّل قيمة من القيم المتميّزة ولا بدّ عند السّماح بايّ استثناء لمبدأ احترام الخصوصيّة من اعتماد عتبة عالية من التّبريرات”. (الفقرة ٣٥) كما ذكرت المحكمة بأنّه “لا يمكن السّماح بالنّفاذ إلى الفضاء الخاصّ للأفراد سوى عندما يتمّ تقديم طلب في الغرض يكون قائما على ضرورة قصوى”. (الفقرة ٣٥)
وفيما يتعلّق بنموذج الضّمانات التي يقدّمها القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها ذكرت المحكمة أنّ اللجوء إلى سلطة مستقلّة للمصادقة على قرار التنصّت يضمن الفصل بين الطّرف الذي يطلب التنصّت والطّرف الذي يصادق على الاذن به ممّا من شأنه أن “يجنّب، بقدر المستطاع، إساءة استعمال المنظومة”. (الفقرة ٣٥) بيد أنّ المحكمة أشارت إلى أنّ فعاليّة نظام المصادقة في القانون يرتبط ارتباطا وثيقا بدور القاضي المعيّن وعبّرت المحكمة عن انشغالها إزاء مدى قدرة “دور القاضي ونطاق تدخّله على منع سوء استعمال المنظومة لما لذلك من علاقة بالسّبب المنطقي المعتمد للسّماح بالتنصّت وتفرّع ذلك السّبب الذي يمكنه نوعا ما الحدّ من مجال تحرّك القاضي لأنّه مطالب بالعمل بكلّ تكتّم وفي السريّة ولا يمكنه أن يتصرّف كما يتصرّف القاضي العاديّ في المجال القضائي العام”. (الفقرة ٣٩)
درست المحكمة أوّلا الرّأي القائل بأنّ القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها هو قانون غير دستوريّ لأنّه لا ينصّ على حقّ الشّخص الخاضع للتنصّت في أن يتمّ إعلامه بذلك عند الفراغ من أعمال التنصّت على اتّصالاته حيث يمنع القسم ١٦ (٧) (أ) الإفصاح عن التنصّت للشّخص الذي تعرّض لعمليّة التنصّت. أكّدت المحكمة بأنّ الإعلام قبل المراقبة يطرح طبعا اشكالا لأنّ ذلك سيحول حتما دون تحقيق الغرض المرجوّ من التنصّت وبذلك لا يتعلّق الأمر سوى بالإشعار اللاحق لعمليّة التنصّت. (الفقرة ٤١)
إشارة إلى قضيّة Klass ضدّ ألمانيا أمام المحكمة الأوروبيّة لحقوق الانسان ECHR [1978] 5029/71 أبرزت المحكمة أنّه رغم الحاجة إلى المراقبة لا بدّ أن تشمل المنظومة المعتمدة “ضمانات ملائمة وفعّالة ضدّ إساءة استعمالها”. (الفقرة ٤٢) وأقرّت المحكمة بأنّ عدم إشعار الشّخص بأنّه قد خضع للتنصّت يتضمّن حرمانه من فرصة للانتصاف لدى المحكمة من أيّ إساءة قد تكون لحقته من منظومة التنصّت ويكون بذلك حقّه في الوصول إلى المحكمة المكفول بمقتضى القسم ٣٤ من الدّستور قد هُضم وقضت المحكمة بأنّ الاشعار بعد نهاية التنصّت “يكتسي دورا شديد الأهميّة في ضمان الحقّ المكفول بمقتضى القسم ٣٤”. (الفقرة ٤٤) وبذلك أصبح السّؤال الذي تطرحه المحكمة يتمثّل فيما تفوق أهميّة الحظر التام على الإشعار بعد انتهاء التنصّت وبالتّالي الحفاظ “على السريّة إلى الأبد” أهميّة الحقوق الدّستوريّة الواردة في القسم ٣٤ مقرونة بما جاء في القسم ١٤ من الدّستور.
أقرّت المحكمة بانّه “لا مردّ طبعا لاقتحام الخصوصيّة لكن ينبغي أن تتوفّر على الأقلّ سبل للجبر على نحو رجعيّ في الحالات التي يتبيّن فيها أنّ الاقتحام كان غير سليم”. (الفقرة ١٩) أشارت المحكمة إلى كندا والولايات المتحدة الامريكيّة واليابان التي تفرض الإشعار بعد انتهاء عمليّة التنصّت ما لم توجد أسباب (تحدّدها سلطة مستقلّة) تمنع ذلك. واستندت المحكمة إلى فقه قضاء المحكمة الأوروبيّة لحقوق الانسان ومن بينها قضيّة Klass وWeber و Saravia ضدّ ألمانيا(2008) 46 EHRR SE5 و Zakharov ضدّ روسيا (2016) 63 EHRR 17 التي تبيّن أنّ “الاشعار اثر انتهاء عمليّة التنصّت يمثّل عنصرا أساسيّا في نموذج المراقبة الذي يستجيب إلى متطلّبات الفصل ٨ من الاتّفاقيّة الأوروبيّة”. (الفقرة ٤٩). وذهبت المحكمة إلى أنّ هذا التّحليل لفقه القضاء المقارن يبيّن أنّ “الرّاي العام العالمي يعتبر هذا الحقّ وجها من أوجه النّظام الاجتماعي الدّيمقراطي على أن يخضع إلى ضمانات ضدّ التّراجع عن تحقيق الأهداف الحقيقيّة للرّقابة المشروعة”. (الفقرة ٥١)
كما أشارت المحكمة إلى انّه لم يتمّ تقديم ايّ معطيات مقنعة عن سبب حياد جنوب افريقيا عن هذا المبدأ وقضت بأنّ تطبيق أحكام القسم ٣٦ بشأن الوسائل الأقلّ اقتحاما القادرة على تحقيق الغرض من القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها يعني أنّه “يمكن على نحو عمليّ تأمين الحماية ضدّ إساءة توظيف القانون عبر المساءلة أمام المحكمة بالنص على إشعار المعنيّ بالأمر بعد انتهاء عمليّة التنصّت كما هو معمول به في المجتمعات الدّيمقراطيّة الأخرى”. (الفقرة ٥٢) وبناء عليه قضت المحكمة بعدم دستوريّة القانون لأنّه لا ينصّ على إشعار بعد الفراغ من المراقبة وطالبت، في انتظار سنّ التّشريعات اللازمة لتفادي هذا النّقص، بتطبيق القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها على أنّه يطالب بإشعار الشخص الخاضع إلى التنصّت بذلك في غضون ٩٠ يوما من انقضاء تاريخ الاذن بالتنصّت ما لم يصادق القاضي المعيّن بتأجيل ذلك إلى أجل يمكن أن يصل إلى ١٨٠ يوما. ونصّت المحكمة على أنّه إذا ما تسبّب التّأجيل في وصول إجمالي فترة المراقبة إلى ثلاث سنوات يجب عرض أي مطلب لمزيد تأجيل الاشعار أمام أنظار لجنة تتكوّن من ثلاثة قضاة معيّنين.
فيما يتعلّق بعدم دستوريّة دور القاضي المعيّن بمقتضى القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها، أقرّت المحكمة بأنّ الحدّ من مجموع الأشخاص المؤهّلين لهذه الخطّة وجعلها تنحصر على القضاة المحنّكين هو “عنصر هامّ جدّا من العناصر التي تضمن مصداقيّة ما نقدّمه للمواطنين كخلاصة للاستقلالية والموضوعيّة والمعارف القانونيّة والمهارات في مجال أخذ القرار”. (الفقرة ٥٧) كما أقرّت بأنّ التّفصيل الوارد في القسم ١٦ من القانون يدلّ على أنّ الطّرف المكلّف بصياغته كان يسعى إلى إرساء منظومة تحتوي على ضمانات بيد أنّ المحكمة أقرّت أيضا بوجود نواقص في تلك المنظومة لأنّ تسمية القاضي المعيّن والمدّة غير المحدودة لولايته تمسّ من استقلاليّته. أشارت المحكمة إلى أنّه لم يتمّ دحض عميق وجديّ للادعاء الذي تقدّم به مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية بكون القاضي المعيّن يتمّ تعيينه وفقا للسلطة التقديريّة لوزير العدل ويقوم بمهامّه في كنف السريّة كما يتمتّع بعهدة غير محدودة في الزّمن ويعمل في ظروف تتضارب كليّا مع “المبادئ المعهودة التي يقوم عليها العمل العادي للقاضي المتمثّل في إصدار الأوامر للغير على نحو صريح” مّما من شأنه أن يهدّد على نحو جديّ استقلاليّة القاضي المعيّن. (الفقرتان ٦٢ و٦٣) وبناء عليه قضت المحكمة، في انتظار التّعديل التامّ من قبل البرلمان، بأن يواصل وزير العدل تسمية القاضي المعيّن لكن بالاعتماد على ترشيحات يقدّمها رئيس القضاة ولعهدة تمتدّ على سنتين غير قابلة للتّجديد.
فيما يتعلّق باعتبار عرض طلب الإذن بالتنصّت على نائب الحقّ العام قبل القاضي المعيّن لتفعيل الحقّ في محاكمة عادلة كما ينصّ عليه القسم ٣٤ من الدّستور بتمكين القاضي من الاطّلاع على موقف الطّرفين، أقرّت المحكمة بأنّ ذلك يمثّل مقترحا وجيها لإجراءات يمكنها أن تكون أقلّ اقتحاما مع تحقيق الأهداف المنشودة من خلال القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها. وأقرّت المحكمة بأنّ المنظومة الحاليّة لم توفّق في جعل القاضي المعيّن يصدر أوامر بناء على طلب من طرف واحد لكن لم تعتبر أنّ ادراج نائب الحقّ العام في المنظومة يمثّل حماية كافية.
نظرت المحكمة في الحجّة القائلة بعدم دستوريّة القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها لأنّه يسمح بالاطلاع على الاتصالات القديمة من خلال مطالبة جميع مزوّدي خدمات الاتصالات بالحفاظ على البيانات لفترة تمتدّ بين ثلاث وخمس سنوات حسب ما يحدّده الوزير. اعتبرت المحكمة أنّ هذه الأحكام تعني أنّ “كافّة الاتصالات الشخصيّة التي تعود إلى ثلاث سنوات خلت متوفّرة وتنتظر تتدخّل الدّولة فيها إذا ما تمكّن موظّفوها من إقناع موظّف قضائيّ بالإذن بالنّفاذ”. (الفقرة ٨٥) وأحالت المحكمة إلى تقرير أعدّه المفوّض الأمميّ السّامي لحقوق الانسان بتاريخ ٣٠ يونيو ٢٠١٤ عبّر فيه عن قلقه فيما يتعلّق “بالضّمانات والرّقابة وسبل الانتصاف الضّعيفة نسبيّا إزاء التدخّل غير المشروع في الحقّ في الخصوصيّة” في القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها. (الفقرة ٩١) أقرّت المحكمة بأنّ الفترات المنصوص عليها في القانون تختلف عن التّشريعات الأخرى فأستراليا تعتمد فترة لا تتعدّى السنتين وتتراوح الفترات التي تحدّدها التّشريعات المختلفة بين ستّة أشهر وسنة. بيد أنّ المحكمة ارتأت أنّ هذا الجانب من القانون لا يتضارب مع أحكام الدّستور.
في المقابل، ذهبت المحكمة إلى أنّ إدارة البيانات كما نصّ عليها القانون “لا تتّفق مع المعايير المعتمدة في التّشريعات الدّيمقراطيّة الأخرى”. (الفقرة ١٠٧) بالإشارة إلى قضيّة Weber و Saravia ضدّ ألمانيا التي رُفعت إلى أنظار المحكمة الأوروبيّة لحقوق الانسان و قضيّة Davis ضدّ وزير الدّاخليّة في المملكة المتحدة (٢٠١٥) التي رُفعت أمام نظر المحكمة العليا لإنجلترا و بلاد الغال ٢٠٩٢ (١٧ يوليو ٢٠٠٥)، أكّدت المحكمة على ضرورة أن يحدّد التّشريع صراحة طبيعة تخزين البيانات و أنظمة المساءلة لتجنّب التعسّف في استعمال السّلطة. ورأت المحكمة أنّ “نظام الرّقابة الوارد في القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها ليس بالنّظام المتين “حيث لا ينصّ على أيّ مراقبة قضائيّة للمراكز التي تخزّن المعطيات وأنّ القانون عندما فتح باب النّفاذ إلى المعطيات المخزّنة من خلال توجيه طلب إلى أيّ قاض من القضاة (مقابل اشتراط تقديم مطلب للقاضي المعيّن للمراقبة الآنيّة) فذلك لا يمثّل ضمانا عديم الفعاليّة فحسب بل هو يمثّل غيابا تامّا للضّمانات”. (الفقرة ١٠٦)
أمّا الاعتراض الرّابع على دستوريّة القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها فهو يقوم على كون القانون لا يتطرّق بنحو ملائم إلى الحصانة القانونيّة أو الحاجة إلى حماية سريّة المصادر الصحفيّة وقد أقرّت المحكمة بأنّ التّحليل في هذا الصّدد “يتجاوز المستوى الذي نقبل فيه ولو على مضض المساس بالحياة الخاصّة من أجل تحقيق مصلحة أشمل”. (الفقرة ١١٢) وأكّدت المحكمة على التّمييز بين دور المحامي ودور الصّحفيّ وتطرّقت بذلك إلى الحالتين على نحو منفصل. أكّدت المحكمة بأنّ الواجب المحمول على المحامي بعدم الإفصاح عن فحوى الاتصالات بينه وبين زبائنه هو أمر مبتذل لأنّ ذلك يمثّل امتيازا يتمتّع به العميل وليس المحامي. تتعلّق قضيّة الحال بقدرة الأطراف الأخرى على النّفاذ إلى الاتّصالات المحميّة بصفة السريّة وما يترتّب عن ذلك النّفاذ. أشارت المحكمة إلى أنّ النّافذ إلى اتصالات العميل يمثّل تدخّلا ذي نطاق أضيق مقارنة بالنّفاذ إلى اتّصالات المحامي لأنّ اتّصالات المحامي من شأنها أن تكشف، عن غير قصد، معلومات سريّة تهمّ العديد من العملاء. ورأت المحكمة أنّ القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها لم يتطرّق إلى هذا الجانب.
وقد اقترح مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية توظيف وسيط ليمحّص في الاتصالات المسجّلة لفرز ما هو غير ذي صلة بالقضيّة التي تمّ الاذن بالتنصّت في إطارها وما هو محميّ تحت مظلّة المعلومات السريّة. أكّدت المحكمة على عدم وجود سابقة دوليّة في المجال لكنّها اعترفت بأنّ “توظيف وسيط يمكنه أن يمثّل في بعض الحالات وسيلة مفيدة بل هي في بعض الحالات الطّريقة الوحيدة المتوفّرة لتجنّب الكشف غير المرغوب فيه عن المعلومات.” (الفقرة ١٢٦) كما وافقت المحكمة على المقترح الذي تقدّم به مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية على إدراج شرط صريح بالإفصاح في مطلب الاذن بالتنصّت عن صفة الفرد الذي سيخضع بالتنصّت عندما يكون محاميا ” باعتبار دقّة الوضع وتبعات الإذن بالتنصّت”. (الفقرة ١٢٧)
أقرّت المحكمة بأهميّة الدّور الذي يضطلع به الصحفيّ الاستقصائيّ واعتبرت أنّه “يتقصّى الأحداث من خلال التّحقيق عبر المخبرين وغيرهم ممّن يشون بزملائهم ورؤسائهم” وأبرزت الحاجة إلى حماية سريّة المصادر. (الفقرة ١٢٩) أشارت المحكمة إلى أنّ الدّستور كفل لوسائل الاعلام حقّها في حريّة التّعبير “هنالك تلكّؤ إزاء قطع الخطوة الموالية الضروريّة للاعتراف بأنّ الصحفيّ ينتمي إلى فئة خاصّة من المواطنين وأنّ طريقة عمله تتطلّب حماية خاصّة مثل تلك التي يتمتّع بها المحامي.” (الفقرة ١٣٠)
ذهبت المحكمة إلى أنّ الاشكال هنا لا يتمثّل في اجبار الصحفيّين على الكشف عن مصادرهم بل في قدرة أطراف أخرى على التعرّف على تلك المصادر من خلال التنصّت على مكالمات الصحفيّ. قبلت المحكمة بكون القسم ١٦ من الدّستور لا ينصّ صراحة على حماية سريّة المصادر لكنّها رأت أنّه “إذا كانت المخرجات ذات قيمة كبرى لماذا نتباطأ في الاعتراف بالأهميّة القصوى للمصادر السريّة في تحقيق تلك المخرجات؟” (الفقرة ١٣١) وأضافت أنّه من “السّهل أن نقرّ بأنّ الصّحافة هي معقل الدّيمقراطيّة ثم نختار أن نتجاهل حقيقة تجميع المعلومات لتتمكّن الصّحافة من الاضطلاع بالدّور الموكل لها”. (الفقرة ١٣١)
بنت المحكمة حكمها هنا على الذّكر الواضح للصحافة في القسم ١٦ من الدّستور للدّلالة على الاعتراف الدّستوري بقيمتها ودورها. أحالت المحكمة إلى قضيّة شركة Bosasa للخدمات ضدّ Basson 2013 (2) SA 570 (GSJ) ورأت أنّ التّفسير الهادف للقسم ١٦ يضمن حماية للمصادر الصحفيّة وأنّ هذه المقاربة من شأنها أن تفعّل طلب “تعزيز” دور الاعلام ولا “تجريده”. (الفقرة ١٣٣) وأضافت المحكمة بأنّ الحقّ في حجب هويّة المصادر تنسحب على الحقّ في عدم التعرّض للتجسّس واحالت المحكمة أيضا إلى بيان المفوضيّة الافريقيّة بشأن مبادئ حريّة التّعبير في افريقيا الذي نصّ صراحة على ألّا يطالب الاعلام بالإفصاح عن مصادره سوى في حالات استثنائيّة.
وفيما يتعلّق بالفساد في جنوب افريقيا ذكرت المحكمة “في بلاد مثل جنوب افريقيا مزّقها الفساد السّائد صلب مؤسّساتها العموميّة والخاصّة وحيث الكشف عن المخالفات يتولّاه في جزء كبير منه الصحفيّون الاستقصائيّون لأنّ لا أحد سواهم تقريبا يقوم بذلك فإنّه من باب التّناقض أن نثني على الصّحافة وأن نتجاهل في نفس الوقت متطلّباتها الخصوصيّة لتكون من الدّعائم الفعليّة للمسار الدّيمقراطي”. (الفقرة ١٣١) وذكرت المحكمة أنّ الصحفيّين الاستقصائيّين في جنوب افريقيا قد جلبوا انتباه بعض الشخصيّات القويّة “القادرة على تحريض جهاز الدّولة ضدّ منافسيها” وهو ما يزيد من احتمال الانتهاكات في إطار المنظومة الحاليّة التي ينظّمها القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها. (الفقرة ١٣٨) أشارت المحكمة هنا إشارة صريحة إلى وقائع القضيّة واعتبرت حصول الدّولة على إذن بالتنصّت يسمح لها بالتجسّس على سام سول وبيلي داونر دليل على هشاشة القانون (وأنّه يمكن الكذب على القاضي المعيّن) ممّا يفتح الباب أمام الانتهاكات. ارتأت المحكمة أنّه يمكن اصلاح أوجه الهشاشة في القانون من خلال مطالبة القاضي المعيّن بدراسة المبرّرات التي يتمّ تقديمها في طلب الإذن بالتنصّت على صحفيّ.
رأت المحكمة أنّ القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها يشوبه عيب من النّاحية الدّستوريّة لأنّ “الوضع المميّز للصحفيّين لم تتمّ مراعاته بشكل صريح” وكما هو الحال بالنّسبة إلى الصحفيّين ” فالتجسّس على الصحفيّ هو بمثابة التّحقيق مع النّاس الذين يتّصل بهم الصحفيّ” وهو أمر لا يستقيم. (الفقرة ١٣٦) رفضت المحكمة الحجّة القائلة بأنّه لا يوجد أيّ حقّ دستوريّ خاصّ بالصحفيّين يمكنهم المطالبة به وذلك بناء على القسم ١٦ من الدّستور الذي يذكر صراحة الاعلام.
بالنّسبة إلى الاعتراض الخامس والأخير المتعلّق بتجميع معطيات التنصّت بالجملة بمقتضى القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها الذي عرّفته المحكمة بالإشارة الى قضيّة مركز العدالة (Centrum For Rattvisa) ضدّ السّويد أمام المحكمة الأوروبيّة لحقوق الانسان [2019] 68 EHRR 2 على أنّه التنصّت الاستخباراتي من خلال الوصلات اللاسلكيّة و الأقمار الصناعيّة والكابلات.
وقد وصف مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية المراقبة بالجملة بكونها “الطّريقة المقبولة دوليّا للرّصد الاستراتيجي للإشارات العابرة للحدود للكشف ضمنها على بعض الكلمات الدلاليّة أو الجمل المفاتيح” لحماية الأمن الوطني ضدّ التّهديدات العابرة للحدود الوطنيّة. (الفقرة ١٤٣) ذكرت المحكمة أنّ السّؤالين الذين يجب طرحهما بشأن المراقبة بالجملة يتعلّقان بوجود أو عدم وجود قانون يسمح بالقيام بتلك المراقبة وإذا ما وجد ذلك القانون هل هو دستوريّ.
لا شكّ في أنّ القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها لم يأذن بالتنصّت بالجملة لكنّ الدّولة احتجّت بأنّ قانون الاستخبارات الاستراتيجية الوطنيّة لسنة ١٩٩٤ نصّ على ذلك حيث خوّل القسم ٢ من القانون للمصالح الأمنيّة وإنفاذ القانون “تجميع المعلومات الاستخباراتيّة الوطنيّة والأجنبيّة وربطها فيما بينها وتقييمها وتحليلها”. لكنّ المحكمة ارتأت أنّ قانون الاستخبارات الاستراتيجية الوطنيّة لا يأذن بالتنصّت باستثناء التنصّت لغرض منح الأفراد تصاريح أمنيّة وهو بالتّالي تنصّت يستهدف أشخاصا محدّدة وليس تنصّتا بالجملة ممّا يتطلّب تطبيق القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلقة بها. بناء عليه، رأت المحكمة أنّه لا يمكن اعتبار أن قانون الاستخبارات الاستراتيجية الوطنيّة يجيز التنصّت بالجملة وأشارت المحكمة إلى أنّ قول المدير العام لمصالح الاستخبارات بأنّ التنصّت بالجملة من الممارسات المعتادة عبر العالم هو من “المسلّمات” لكنّها أكّدت على أنّه في غياب قانون جنوب افريقيّ يرخّص بذلك النّوع من التنصّت لا يمكن السّماح به.
في الختام قضت المحكمة بأنّ القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها غير دستوريّ طالما لم ينصّ على الاشعار بعد انقضاء فترة المراقبة وطالما نظام تسمية القاضي المعيّن لا يضمن استقلاليّته وطالما لا يطالب الطّرف المتقدّم بمطلب الاذن بالتنصّت بإعلام القاضي بأنّ الشّخص الذي سيخضع إلى التنصّت هو محام أو صحفيّ. أمّا بالنّسبة إلى فترة الاحتفاظ بالمعطيات فقد اعتبرت المحكمة أنّها ليست متضاربة مع أحكام الدّستور. أقرّت المحكمة بأنّ المنظومة المعمول بها حاليّا تطرح إشكالات إذ تقبل إصدار أذون بناء على طلب من طرف واحد لكنّها رفضت الحلّ المقترح لحلّ ذلك الاشكال من خلال إدراج نائب الحقّ العام في مسار الإجراءات.
تقدّم مركز امابهونجاني للصّحافة الاستقصائية بطلب أمام المحكمة الدّستوريّة لتأكيد التّصريح بعدم دستوريّة القانون المتعلّق بتنظيم التنصّت على الاتّصالات وتوفير المعلومات المتعلّقة بها.
يشير اتجاه الحكم إلى ما إذا كان الأخير يُوسع من مدي التعبير أم يُضيقه بناءً على تحليل للقضية.
قرّرت المحكمة العليا لشمال خاوتينغ في بريتوريا -جنوب افريقيا أنّ التنصّت على الاتصالات دون إشعار المعني بالأمر بعد انقضاء أجل الاذن بالتنصّت يشكّل قيدا غير مبرّر للحقّ في الخصوصيّة. وأدلت المحكمة ببيانات قويّة لصالح حقّ الاعلام في حريّة التّعبير معتبرة أنّه رغم صمت الدّستور إزاء حماية سريّة مصادر الصحفيّين فالذّكر الصريح لوسائل الاعلام في نطاق الحقّ الدّستوري في التّعبير يعني أنّه ينبغي تفسير ذلك الحقّ على نحو يعمل فعلا على تفعيل حقوق وسائل الاعلام.
يوضح المنظور العالمي كيف تأثر قرار المحكمة بمعايير سواء من منطقة واحدة أو عدة مناطق.
تُشير أهمية هذه القضية إلى مدى تأثيرها وكيفية تغير مدى أهميتها بمرور الوقت.